فصل: كِتَابُ السِّيَرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.كِتَابُ السِّيَرِ:

السِّيَرُ جَمْعُ سِيرَةٍ، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ فِي الْأُمُورِ، وَفِي الشَّرْعِ تَخْتَصُّ بِسِيَرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي مَغَازِيهِ.
الشَّرْحُ:
(كِتَابُ السِّيَرِ) أَوْرَدَ الْجِهَادَ عَقِيبِ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ نَاسَبَهَا بِوَجْهَيْنِ بِاتِّحَادِ الْمَقْصُودِ مِنْ كُلٍّ مِنْهَا وَمِنْ مَضْمُونِ هَذَا الْكِتَابِ، وَهُوَ إخْلَاءُ الْعَالَمِ مِنْ الْفَسَادِ، وَبِكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا حَسُنَ لِحُسْنِ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ الْغَيْرُ، وَهُوَ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَتَأَدَّى بِفِعْلِ نَفْسِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُوَ الْقِتَالُ وَجَبَ تَأْخِيرُهُ عَنْهَا لِوَجْهَيْنِ: كَوْنُ الْفَسَادِ الْمَطْلُوبِ الْإِخْلَاءُ عَنْهُ بِالْجِهَادِ أَعْظَمَ كُلِّ فَسَادٍ وَأَقْبَحَهُ، وَالْعَادَةُ فِي التَّعَالِيمِ الشُّرُوعُ فِيهَا عَلَى وَجْهِ التَّرَقِّي مِنْ الْأَدْنَى إلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، وَكَوْنُهُ مُعَامَلَةً مَعَ الْكُفَّارِ، وَالْحُدُودُ مُعَامَلَةٌ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَقْدِيمُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْلِمِينَ أَوْلَى.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ لَهُ مُنَاسَبَةً خَاصَّةً بِالْعِبَادَاتِ، فَلِذَا أَوْرَدَهُ بَعْضُ النَّاسِ عَقِيبَهَا قَبْلَ النِّكَاحِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ بِخِلَافِ النِّكَاحِ (وَالسِّيَرُ جَمْعُ سِيرَةٍ) وَهِيَ فِعْلَةٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ مِنْ السَّيْرِ فَيَكُونُ لِبَيَانِ هَيْئَةِ السَّيْرِ وَحَالَتُهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَةً لِلْهَيْئَةِ كَجِلْسَةٍ وَخِمْرَةٍ، وَقَدْ اُسْتُعْمِلَتْ كَذَلِكَ فِي السَّيْرِ الْمَعْنَوِيِّ حَيْثُ قَالُوا فِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: سَارَ فِينَا بِسِيرَةِ الْعُمْرَيْنِ، لَكِنْ غَلَبَ فِي لِسَانِ أَهْلِ الشَّرْعِ عَلَى الطَّرَائِقِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي غَزْوِ الْكُفَّارِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ كَوْنَهَا تَسْتَلْزِمُ السَّيْرَ وَقَطْعَ الْمَسَافَةِ.
وَقَدْ يُقَالُ كِتَابُ الْجِهَادِ، وَهُوَ أَيْضًا أَعَمُّ غَلَبَ فِي عُرْفِهِمْ عَلَى جِهَادِ الْكُفَّارِ، وَهُوَ دَعَوْتُهُمْ إلَى الدِّينِ الْحَقِّ، وَقِتَالُهُمْ إنْ لَمْ يَقْبَلُوا، وَفِي غَيْرِ كُتُبِ الْفِقْهِ يُقَالُ: كِتَابُ الْمَغَازِي، وَهُوَ أَيْضًا أَعَمُّ، جَمْعُ مَغْزَاةٍ مَصْدَرًا سَمَاعِيًّا لِغَزَا دَالًّا عَلَى الْوَحْدَةِ، وَالْقِيَاسِيُّ غَزْوٌ وَغَزْوَةٌ لِلْوَحْدَةِ كَضَرْبَةٍ وَضَرْبٍ وَهُوَ قَصْدُ الْعَدُوِّ لِلْقِتَالِ خُصَّ فِي عُرْفِهِمْ بِقِتَالِ الْكُفَّارِ.
هَذَا وَفَضْلُ الْجِهَادِ عَظِيمٌ، وَكَيْفَ لَا وَحَاصِلُهُ بَذْلُ أَعَزِّ الْمَحْبُوبَاتِ وَإِدْخَالِ أَعْظَمِ الْمَشَقَّاتِ عَلَيْهِ وَهُوَ نَفْسُ الْإِنْسَانِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقَرُّبًا بِذَلِكَ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَأَشَقُّ مِنْهُ قَصْرُ النَّفْسِ عَلَى الطَّاعَاتِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ عَلَى الدَّوَامِ وَمُجَانَبَةِ أَهَوِيَتِهَا، وَلِذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ رَجَعَ مِنْ مَغْزَاةٍ «رَجَعْنَا مِنْ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ» وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخَّرَهُ فِي الْفَضِيلَةِ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى وَقْتِهَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَوْ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَدْ جَاءَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَهُ أَفْضَلَ بَعْدَ الْإِيمَانِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إيمَانٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَهَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ صُورَةً مُعَارِضَةً لَكِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ كُلٍّ عَلَى مَا يَلِيقُ بِحَالِ السَّائِلِ، فَإِذَا كَانَ السَّائِلُ يَلِيقُ بِهِ الْجِهَادُ لِمَا عَلِمَهُ مِنْ تَهْيِئَتِهِ لَهُ وَاسْتِعْدَادِهِ زِيَادَةً عَلَى غَيْرِهِ كَانَ الْجِهَادُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ أَفْضَلَ مِمَّنْ لَيْسَ مِثْلَهُ فِي الْجَلَادَةِ وَالْغَنَاءِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا وَتِلْكَ هِيَ الْفَرَائِضُ، وَفِي هَذَا لَا يُتَرَدَّدُ فِي أَنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى أَدَاءِ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ وَأَخْذَ النَّفْسِ بِهَا فِي أَوْقَاتِهَا عَلَى مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قولهِ الصَّلَاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا أَفْضَلُ مِنْ الْجِهَادِ.
وَلِأَنَّ هَذِهِ فَرْضُ عَيْنٍ وَتَتَكَرَّرُ وَالْجِهَادُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّ افْتِرَاضَ الْجِهَادِ لَيْسَ إلَّا لِلْإِيمَانِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فَكَانَ مَقْصُودًا وَحَسَنًا لِغَيْرِهِ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ حَسَنَةٌ لِعَيْنِهَا وَهِيَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَفِيهِ طُولٌ إلَى أَنْ قَال: «وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا شَحَبَ وَجْهٌ وَلَا اغْبَرَّتْ قَدَمٌ فِي عَمَلٍ يُبْتَغَى بِهِ دَرَجَاتُ الْآخِرَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ كَجِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَإِذْ لَا شَكَّ فِي هَذَا عِنْدَنَا وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ كُلٌّ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مُرَادَةً بِلَفْظِ الْإِيمَانِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَيَكُونُ مِنْ عُمُومِ الْمَجَازِ أَوْ يُرَجَّحُ بِزِيَادَةِ فِقْهِ الرَّاوِي وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِمَا عَضَّدَهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ.
وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مُعَارَضَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الصَّلَاةَ فِيهِ أَصْلًا، فَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ جَهْلُ الْجِهَادِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَهُوَ يَصْدُقُ إذَا كَانَ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَهِيَ قَبْلَهُ بَعْدَ الْإِيمَانِ فَلَا مُعَارَضَةَ إلَّا إذَا نَظَرْنَا إلَى الْمَقْصُودِ.
وَمِنْ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ مَا عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «مُقَامُ الرَّجُلِ فِي الصَّفِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ عِبَادَةِ الرَّجُلِ سِتِّينَ سَنَةً» رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَعْدِلُ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا تَسْتَطِيعُونَهُ، فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقول لَا تَسْتَطِيعُونَهُ، ثُمَّ قَالَ: مَثَلُ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمِثْلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَفْتُرُ عَنْ صَلَاتِهِ وَلَا صِيَامِهِ حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مَنْ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إيمَانًا بِاَللَّهِ وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ فَإِنَّ شِبَعَهُ وَرَيَّهُ وَرَوْثَهُ وَبَوْلَهُ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَمِنْ تَوَابِعِ الْجِهَادِ الرِّبَاطُ، وَهُوَ الْإِقَامَةُ فِي مَكَان يُتَوَقَّعُ هُجُومُ الْعَدُوِّ فِيهِ لِقَصْدِ دَفْعٍ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضْلِهِ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقول: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ فِيهِ أَجْرَى عَلَيْهِ عَمَلَهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ وَأَجْرَى عَلَيْهِ رِزْقَهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، زَادَ الطَّبَرَانِيُّ «وَبُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَهِيدًا» وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ ثِقَاتٍ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ «مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا أَمِنَ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ» وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «وَبَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آمِنًا مِنْ الْفَزَعِ» وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال: «إنَّ صَلَاةَ الْمُرَابِطِ تَعْدِلُ خَمْسَمِائَةِ صَلَاةٍ، وَنَفَقَتُهُ الدِّينَارَ، وَالدِّرْهَمُ مِنْهُ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِمِائَةِ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ فِي غَيْرِهِ» هَذَا، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يَتَحَقَّقُ فِيهِ الرِّبَاطُ فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي كُلِّ مَكَان فَفِي النَّوَازِلِ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَكُونُ وَرَاءَهُ إسْلَامٌ لِأَنَّ مَا دُونَهُ لَوْ كَانَ رِبَاطًا فَكُلُّ الْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِهِمْ مُرَابِطُونَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا أَغَارَ الْعَدُوُّ عَلَى مَوْضِعٍ مَرَّةً يَكُونُ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ رِبَاطًا إلَى أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَإِذَا أَغَارُوا مَرَّتَيْنِ يَكُونُ رِبَاطًا إلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَإِذَا أَغَارُوا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَكُونُ رِبَاطًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
قَالَ فِي الْفَتَاوَى الْكُبْرَى: وَالْمُخْتَارُ هُوَ الْأَوَّلُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ كَوْنِ مَحَلِّ الرِّبَاطِ مَا وَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ ذُكِرَ فِي حَدِيثٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مَنْ حَرَسَ مِنْ وَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُتَطَوِّعًا لَا يَأْخُذُهُ سُلْطَانٌ لَمْ يَرَ النَّارَ بِعَيْنِهِ إلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، فَإِنَّ اللَّهَ يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إلَّا وَارِدُهَا}» رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى.
وَفِيهِ لِينٌ مُحْتَمَلٌ فِي الْمُتَابَعَاتِ، وَلَيْسَ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْمَكَانِ، فَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ لَيْسَ فِيهَا سِوَى الْحِرَاسَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَلْنَخْتِمْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ بِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ» زَادَ فِي رِوَايَةٍ «وَعَبْدُ الْقَطِيفَةِ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغَبَّرَةٍ قَدَمَاهُ، إنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إنْ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ».

متن الهداية:
قَالَ: (الْجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ فَرِيقٌ مِنْ النَّاسِ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ) أَمَّا الْفَرْضِيَّةُ فَلِقولهِ تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} وَلِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «الْجِهَادُ مَاضٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَأَرَادَ بِهِ فَرْضًا بَاقِيًا، وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ؛ لِأَنَّهُ مَا فُرِضَ لِعَيْنِهِ إذْ هُوَ إفْسَادٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا فُرِضَ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ وَدَفْعِ الشَّرِّ عَنْ الْعِبَادِ، فَإِذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْبَعْضِ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَرَدِّ السَّلَامِ (فَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ أَحَدٌ أَثِمَ جَمِيعُ النَّاسِ بِتَرْكِهِ) لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْكُلِّ، وَلِأَنَّ فِي اشْتِغَالِ الْكُلِّ بِهِ قَطْعَ مَادَّةِ الْجِهَادِ مِنْ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فَيَجِبُ عَلَى الْكِفَايَةِ (إلَّا أَنْ) (يَكُونُ النَّفِيرُ عَامًّا) فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ لِقولهِ تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} الْآيَةَ.
وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: الْجِهَادُ وَاجِبٌ إلَّا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي سَعَةٍ حَتَّى يُحْتَاجَ إلَيْهِمْ، فَأَوَّلُ هَذَا الْكَلَامِ إشَارَةٌ إلَى الْوُجُوبِ عَلَى الْكِفَايَةِ وَآخِرُهُ إلَى النَّفِيرِ الْعَامِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ عِنْدَ ذَلِكَ لَا يَتَحَصَّلُ إلَّا بِإِقَامَةِ الْكُلِّ فَيُفْتَرَضُ عَلَى الْكُلِّ (وَقِتَالُ الْكُفَّارِ وَاجِبٌ) وَإِنْ لَمْ يَبْدَءُوا لِلْعُمُومَاتِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (الْجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ فَرِيقٌ مِنْ النَّاسِ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ) وَهَذَا وَاقِعٌ مَوْقِعَ تَفْسِيرِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ (أَمَّا الْفَرْضِيَّةُ فَلِقولهِ تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}) حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}، {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} وقوله تَعَالَى انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقولوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» وَالتَّخْصِيصُ الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ قَصْرُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ بِدَلِيلٍ مُسْتَقِلٍّ لَفْظِيٍّ مُقَارِنٍ لِلْمَعْنَى، وَبِهَذِهِ يَنْتَفِي مَا نُقِلَ عَنْ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ وَأَنَّ الْأَمْرَ بِهِ لِلنَّدْبِ، وَكَذَا: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} كَقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَيَجِبُ حَمْلُهُ إنْ صَحَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضِ عَيْنٍ.
فَإِنْ قُلْت: كَيْفَ يَثْبُتُ الْفَرْضُ وَهِيَ عُمُومَاتٌ مَخْصُوصَةٌ، وَالْعَامُّ الْمَخْصُوصُ ظَنِّيُّ الدَّلَالَةِ، وَبِهِ لَا يَثْبُتُ الْفَرْضُ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُخْرِجَ مِنْ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ مَخْصُوصٌ بِالْعَقْلِ عَلَى مَا عُرِفَ وَبِالتَّخْصِيصِ بِهِ لَا يَصِيرُ الْعَامُّ ظَنِّيًّا، وَأَمَّا غَيْرُهُمَا فَنَفْسُ النَّصِّ ابْتِدَاءُ تَعَلُّقٍ بِغَيْرِهِمَا فَلَمْ يَكُنْ مِنْ قَبِيلِ الْمَخْصُوصِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّصَّ مَقْرُونٌ بِمَا يُقَيِّدُهُ بِغَيْرِهِمْ وَهُوَ مِنْ حَيْثُ يُحَارَبُ لِقولهِ تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} فَأَفَادَ أَنَّ قِتَالنَا الْمَأْمُورَ بِهِ جَزَاءٌ لِقِتَالِهِمْ وَمُسَبَّبٌ عَنْهُ، وَكَذَا قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أَيْ لَا تَكُونَ مِنْهُمْ فِتْنَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ بِالْإِكْرَاهِ بِالضَّرْبِ وَالْقَتْلِ، وَكَانَ أَهْلُ مَكَّةَ يَفْتِنُونَ مَنْ أَسْلَمَ بِالتَّعْذِيبِ حَتَّى يَرْجِعَ عَنْ الْإِسْلَامِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي السِّيَرِ، فَأَمَرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْقِتَالِ لِكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى تَفْتِينِ الْمُسْلِمِ عَنْ دِينِهِ، فَكَانَ الْأَمْرُ ابْتِدَاءً بِقِتَالِ مَنْ بِحَيْثُ يُحَارِبُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ أَكَّدَ هَذَا قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ لِحَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ حِينَ رَأَى الْمَقْتُولَةَ «مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ» وَأَمَّا قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «الْجِهَادُ مَاضٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» فَدَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُنْسَخُ، وَهَذَا لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ الِافْتِرَاضَ.
وَقول صَاحِبِ الْإِيضَاحِ إذَا تَأَيَّدَ خَبَرُ الْوَاحِدِ بِالْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ يُفِيدُ الْفَرْضِيَّةَ مَمْنُوعٌ، بَلْ الْمُفِيدُ حِينَئِذٍ الْكِتَابُ وَالْإِجْمَاعُ، وَجَاءَ الْخَبَرُ عَلَى وَفْقِهِمَا، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثٍ «وَالْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِي اللَّهُ إلَى أَنْ يُقَاتِلَ آخِرُ أُمَّتِي الدَّجَّالَ، لَا يُبْطِلُهُ جَوْرُ جَائِرٍ وَلَا عَدْلُ عَادِلٍ، وَالْإِيمَانُ بِالْأَقْدَارِ» فِيهِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إلَّا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ، وَعَنْ هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: هُوَ فِي مَعْنَى الْمَجْهُولِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ أَنَّ الْجِهَادَ مَاضٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَمْ يُنْسَخْ، فَلَا يُتَصَوَّرُ نَسْخُهُ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ لَا قَائِلَ أَنَّ بِقِتَالِ آخِرِ الْأُمَّةِ الدَّجَّالَ يَنْتَهِي وُجُوبُ الْجِهَادِ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ عَلَى الْكِفَايَةِ فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ لَيْسَ مُجَرَّدًا ابْتِلَاءَ الْمُكَلَّفِينَ بَلْ إعْزَازُ الدِّينِ، وَدَفْعُ شَرِّ الْكُفَّارِ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ بِدَلِيلِ قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ بِالْبَعْضِ سَقَطَ) هُوَ لِحُصُولِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ (كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ) الْمَقْصُودُ مِنْهَا قَضَاءُ حَقِّ الْمَيِّتِ وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِ.
وَذَهَبَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ إلَى أَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ تَمَسُّكًا بِعَيْنِ الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ؛ إذْ بِمِثْلِهَا يَثْبُتُ فُرُوضُ الْأَعْيَانِ.
قُلْنَا: نَعَمْ لَوْلَا قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ} الْآيَةَ إلَى قوله تعالى: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَيْنًا لَاشْتَغَلَ النَّاسُ كُلُّهُمْ بِهِ فَيَتَعَطَّلُ الْمَعَاشُ عَلَى مَا لَا يَخْفَى بِالزِّرَاعَةِ وَالْجَلْبِ بِالتِّجَارَةِ وَيَسْتَلْزِمُ (قَطْعُ مَادَّةِ الْجِهَادِ مِنْ الْكُرَاعِ) يَعْنِي الْخَيْلَ (وَالسِّلَاحِ) وَالْأَقْوَاتِ فَيُؤَدِّي إيجَابُهُ عَلَى الْكُلِّ إلَى تَرْكِهِ لِلْعَجْزِ (فَلَزِمَ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْكِفَايَةِ) وَلَا يَخْفَى أَنَّ لُزُومَ مَا ذُكِرَ إنَّمَا يَثْبُتُ إذَا لَزِمَ فِي كَوْنِهِ فَرْضَ عَيْنٍ أَنْ يَخْرُجَ الْكُلُّ مِنْ الْأَمْصَارِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَلَيْسَ ذَلِكَ لَازِمًا بَلْ يَكُونُ كَالْحَجِّ عَلَى الْكُلِّ، وَلَا يَخْرُجُ الْكُلُّ بَلْ يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ أَنْ يَخْرُجَ فَفِي مَرَّةٍ طَائِفَةٌ وَفِي مَرَّةٍ طَائِفَةٌ أُخْرَى وَهَكَذَا، وَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ تَعْطِيلَ الْمَعَاشِ، فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ نَصُّ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ} ثُمَّ هَذَا (إذَا لَمْ يَكُنْ النَّفِيرُ عَامًّا، فَإِنْ كَانَ) بِأَنْ هَجَمُوا عَلَى بَلْدَةٍ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ (فَيَصِيرُ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ) سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَنْفِرُ عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا فَيَجِبُ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ النَّفْرُ، وَكَذَا مَنْ يَقْرُبُ مِنْهُمْ إنْ لَمْ يَكُنْ بِأَهْلِهَا كِفَايَةٌ وَكَذَا مَنْ يَقْرُبُ مِمَّنْ يَقْرُبُ إنْ لَمْ يَكُنْ بِمَنْ يَقْرُبُ كِفَايَةٌ أَوْ تَكَاسَلُوا أَوْ عَصَوْا، وَهَكَذَا إلَى أَنْ يَجِبَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ شَرْقًا وَغَرْبًا، كَجِهَازِ الْمَيِّتِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ يَجِبُ أَوَّلًا عَلَى أَهْلِ مَحَلَّتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا عَجْزًا وَجَبَ عَلَى مَنْ بِبَلَدِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا هَكَذَا ذَكَرُوا، وَكَأَنَّ مَعْنَاهُ إذَا دَامَ الْحَرْبُ بِقَدْرِ مَا يَصِلُ الْأَبْعَدُونَ وَبَلَغَهُمْ الْخَبَرُ وَإِلَّا فَهُوَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ.
بِخِلَافِ إنْفَاذِ الْأَسِيرِ وُجُوبُهُ عَلَى الْكُلِّ مُتَّجَهٌ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مِمَّنْ عَلِمَ، وَيَجِبُ أَنْ لَا يَأْثَمَ مَنْ عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ، وَقُعُودُهُ لِعَدَمِ خُرُوجِ النَّاسِ وَتَكَاسُلِهِمْ أَوْ قُعُودِ السُّلْطَانِ أَوْ مَنْعِهِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقولهِ تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ رُكْبَانًا وَمُشَاةً، وَقِيلَ شَبَابًا وَشُيُوخًا، وَقِيلَ عُزَّابًا وَمُتَزَوِّجِينَ، وَقِيلَ أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالُ قول آخَرُ وَهُوَ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ: أَيْ انْفِرُوا مَعَ كُلِّ حَالٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ.
وَحَاصِلُهَا أَنَّهُ لَمْ يَعْذُرْ أَحَدًا فَأَفَادَ الْعَيْنِيَّةَ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ عَلَى كُلِّ مَنْ ذَكَرَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْكِفَايَةِ فَلَا يُفِيدُ تَعْيِينُهَا الْعَيْنِيَّةَ، بَلْ الْحَقُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْآيَاتِ كُلُّهَا لِإِفَادَةِ الْوُجُوبِ، ثُمَّ تُعْرَفُ الْكِفَايَةُ بِالْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَمَّا الْعَيْنِيَّةُ فِي النَّفِيرِ الْعَامِّ فَبِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ مِنْ إغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ وَالْمَظْلُومِ، وَهَذَا مِنْ جِهَةِ الدِّرَايَةِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الرِّوَايَةَ وَهُوَ قول مُحَمَّدٍ (الْجِهَادُ وَاجِبٌ إلَّا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي سَعَةٍ مِنْ تَرْكِهِ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَيْهِمْ) قَالَ: (فَأَوَّلُ هَذَا الْكَلَامِ) يَعْنِي قولهُ: وَاجِبٌ وَأَنَّهُمْ فِي سِعَةٍ مِنْ تَرْكِهِ (إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْكِفَايَةِ) لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادُ تَرْكُ الْكُلِّ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَهُوَ تَرْكُ الْبَعْضِ (وَآخِرُهُ) وَهُوَ قولهُ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَيْهِمْ (يُفِيدُ الْعَيْنِيَّةَ) إذْ صَارَ الْحَاصِلُ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ يَسَعُ الْبَعْضُ تُرْكَهُ إلَّا أَنْ يَحْتَاجَ فَلَا يَسَعُ، وَلَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِطَاعَةِ فَيَخْرُجُ الْمَرِيضُ الْمُدَنَّفُ.
وَأَمَّا الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ دُونَ الدَّفْعِ يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ لِتَكْثِيرِ السَّوَادِ فَإِنَّ فِيهِ إرْهَابًا.
وَنَفَرَ الْقَوْمُ نَفْرًا وَنَفِيرًا إذَا خَرَجُوا.
قولهُ: (وَقِتَالُ الْكُفَّارِ) الَّذِينَ لَمْ يُسْلِمُوا وَهُمْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ أَوْ لَمْ يُسْلِمُوا وَلَمْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ مِنْ غَيْرِهِمْ (وَاجِبٌ وَإِنْ لَمْ يَبْدَءُونَا) لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لَهُ لَمْ تُقَيِّدْ الْوُجُوبَ بِبَدَاءَتِهِمْ، وَهَذَا مَعْنَى قولهِ (لِلْعُمُومَاتِ) لَا عُمُومُ الْمُكَلَّفِينَ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يُفِيدُ الْوُجُوبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ فَقَطْ فَالْمُرَادُ إطْلَاقُ الْعُمُومَاتِ فِي بَدَاءَتِهِمْ وَعَدَمِهَا خِلَافًا لِمَا نُقِلَ عَنْ الثَّوْرِيِّ.
وَالزَّمَانُ الْخَاصُّ كَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَغَيْرِهَا خِلَافًا لِعَطَاءٍ، وَلَقَدْ اُسْتُبْعِدَ مَا عَنْ الثَّوْرِيِّ وَتَمَسُّكُهُ بِقولهِ تعالى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ نَسْخُهُ.
وَصَرِيحُ قولهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقولوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» الْحَدِيثَ يُوجِبُ أَنْ نَبْدَأَهُمْ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ، وَحَاصَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّائِفَ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ إلَى آخِرِ الْمُحَرَّمِ أَوْ إلَى شَهْرٍ.
وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى نَسْخِ الْحُرْمَةِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ بِقولهِ تعالى: {اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وَهُوَ بِنَاءً عَلَى التَّجَوُّزِ بِلَفْظِ حَيْثُ فِي الزَّمَانِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَثُرَ فِي الِاسْتِعْمَالِ.

متن الهداية:
(وَلَا يَجِبُ الْجِهَادُ عَلَى صَبِيٍّ)؛ لِأَنَّ الصِّبَا مَظِنَّةُ الْمَرْحَمَةِ (وَلَا عَبْدٍ وَلَا امْرَأَةٍ) التَّقَدُّمُ حَقُّ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ (وَلَا أَعْمَى وَلَا مُقْعَدٍ وَلَا أَقْطَعَ لِعَجْزِهِمْ، فَإِنْ هَجَمَ الْعَدُوُّ عَلَى بَلَدٍ وَجَبَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ الدَّفْعُ تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا وَالْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى) لِأَنَّهُ صَارَ فَرْضَ عَيْنٍ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ وَرِقُ النِّكَاحِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ النَّفِيرِ؛ لِأَنَّ بِغَيْرِهِمَا مَقْنَعًا فَلَا ضَرُورَةَ إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يَجِبُ الْجِهَادُ عَلَى صَبِيٍّ إلَخْ) الْوَجْهُ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «عُرِضْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعِ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي فِي الْمُقَاتِلَةِ» الْحَدِيثَ (وَلَا عَبْدٍ وَلَا امْرَأَةٍ لِتَقَدُّمِ حَقِّ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ) بِإِذْنِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ عَلَى حَقِّهِ.
وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ حَقَّ السَّيِّدِ وَالزَّوْجِ حَقٌّ مُتَعَيَّنٌ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ الْعَبْدِ وَتِلْكَ الْمَرْأَةِ، فَلَوْ تَعَلَّقَ بِهِمَا الْجِهَادُ لَزِمَ إطْلَاقُ فِعْلِهِ لَهُمَا، وَإِطْلَاقُهُ يَسْتَلْزِمُ إطْلَاقَ تَرْكِ حَقِّ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ، فَلَوْ تَعَلَّقَ بِهِمْ لَزِمَهُ إبْطَالُ حَقٍّ جَعَلَهُ اللَّهُ مُتَعَيِّنًا لِحَقٍّ لَمْ يَجْعَلْهُ مُتَعَيَّنًا عَلَيْهِ، وَهَذَا اللَّازِمُ بَاطِلٌ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَكُونُونَ مَخْصُوصِينَ مِنْ الْعُمُومَاتِ لِدَلِيلٍ مُقَارِنٍ وَهُوَ الْعَقْلُ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَارَ فَرْضُ عَيْنٍ؛ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ لَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ.
نَعَمْ لَوْ أَمَرَ السَّيِّدُ وَالزَّوْجُ الْعَبْدَ وَالْمَرْأَةَ بِالْقِتَالِ يَجِبُ أَنْ يَصِيرَ فَرْضَ كِفَايَةٍ، وَلَا نَقول صَارَ فَرْضَ عَيْنٍ لِوُجُوبِ طَاعَةِ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ حَتَّى إذَا لَمْ يُقَاتِلْ فِي غَيْرِ النَّفِيرِ الْعَامِّ يَأْثَمُ؛ لِأَنَّ طَاعَتَهُمَا الْمَفْرُوضَةَ عَلَيْهِمَا فِي غَيْرِ مَا فِيهِ الْمُخَاطَرَةُ بِالرُّوحِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ بِخِطَابِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ بِذَلِكَ، وَالْفَرْضُ انْتِفَاؤُهُ عَنْهُمْ قَبْلَ النَّفِيرِ الْعَامِّ، وَعَنْ هَذَا حَرُمَ الْخُرُوجُ إلَى الْجِهَادِ وَأَحَدُ الْأَبَوَيْنِ كَارِهٌ لِأَنَّ طَاعَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا فَرْضُ عَيْنٍ وَالْجِهَادُ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ كَمَا قُلْنَا مَعَ أَنَّ فِي خُصُوصِهِ أَحَادِيثَ مِنْهَا مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو «جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَهُ، فَقَالَ: أَحَيٌّ وَالِدَاك؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» وَقَدَّمْنَا مِنْ صَحِيحِهِ آنِفًا حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَدَّمَ فِيهِ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْجِهَادِ.
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ «جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: جِئْت أُبَايِعُك عَلَى الْهِجْرَةِ وَتَرَكْت أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ، فَقَالَ: ارْجِعْ إلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا» وَفِيهِ عَنْ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ رَجُلًا هَاجَرَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْيَمَنِ، فَقَالَ: هَلْ لَك أَحَدٌ بِالْيَمَنِ؟ قَالَ: أَبَوَايَ، قَالَ: أَذِنَا لَك، قَالَ: لَا، قَالَ: فَارْجِعْ فَاسْتَأْذِنْهُمَا، فَإِنْ أَذِنَا لَك فَجَاهِدْ، وَإِلَّا فَبِرَّهُمَا» وَأَمَّا الْأَعْمَى وَالْأَقْطَعُ فَقَالَ تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ، وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} وَقَالَ تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} وَالْمُقْعَدُ الْأَعْرَجُ، قَالَهُ فِي دِيوَانِ الْأَدَبِ.

متن الهداية:
(وَيُكْرَهُ الْجُعَلُ مَا دَامَ لِلْمُسْلِمِينَ فَيْءٌ) لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْأَجْرَ، وَلَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ مُعَدٌّ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ: (فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَوِّيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا) لِأَنَّ فِيهِ دَفْعَ الضَّرَرِ الْأَعْلَى بِإِلْحَاقِ الْأَدْنَى، يُؤَيِّدُه: «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخَذَ دُرُوعًا مِنْ صَفْوَانَ» وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُغْزِي الْأَعْزَبَ عَنْ ذِي الْحَلِيلَةِ، وَيُعْطِي الشَّاخِصَ فَرَسَ الْقَاعِدِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيُكْرَهُ الْجَعْلُ) يُرِيدُ بِالْجَعْلِ هُنَا أَنْ يُكَلِّفَ الْإِمَامُ النَّاسَ بِأَنْ يُقَوِّيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالسِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النَّفَقَةِ وَالزَّادِ (مَا دَامَ لِلْمُسْلِمِينَ فَيْءٌ) وَهُوَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ مِنْ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ قِتَالٍ كَالْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ، وَأَمَّا الْمَأْخُوذُ بِقِتَالٍ فَيُسَمَّى غَنِيمَةً (لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ وَمَالُ بَيْتِ الْمَالِ مُعَدٌّ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ) وَهَذَا وَجْهٌ يُوجِبُ ثُبُوتَ الْكَرَاهَةِ عَلَى الْإِمَامِ بِخُصُوصِهِ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْجَعْلَ يُشْبِهُ الْأُجْرَةَ، وَحَقِيقَةُ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ حَرَامٌ فَمَا يُشْبِهُهَا مَكْرُوهٌ يُوجِبُهَا عَلَى الْغَازِيِّ وَعَلَى الْإِمَامِ كَرَاهَةٌ تَسَبُّبِهِ فِي الْمَكْرُوهِ، وَحَقِيقَةُ الْجَعْلِ مَا يُجْعَلُ لِلْإِنْسَانِ فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ يَفْعَلُهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مُقْتَضَى النَّظَرِ أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ فِي مَالِ الْغَازِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِعِبَادَةٍ مُرَكَّبَةٍ مِنْ الْمَالِ وَالْبَدَنِ فَتَكُونُ كَالْحَجِّ، وَأَنَّ وُجُوبَ تَجْهِيزِهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى الْإِمَامِ إنَّمَا هُوَ إذَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْجِهَازِ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِمْ وَعِيَالِهِمْ وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ يُعْطِيهِمْ اسْتِحْقَاقَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ غَيْرَ كَافٍ لِلْجِهَازِ مَعَ حَاجَةِ الْمُقَامِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَيْءٌ لَا يُكْرَهُ أَنْ يُكَلِّفَ الْإِمَامُ النَّاسَ ذَلِكَ عَلَى نِسْبَةِ عَدْلٍ (لِأَنَّ بِهِ دَفْعَ الضَّرَرِ الْأَعْلَى) وَهُوَ تَعَدِّي شَرِّ الْكُفَّارِ إلَى الْمُسْلِمِينَ (بِإِلْحَاقِ) الضَّرَرِ (الْأَدْنَى) وَاسْتَأْنَسَ الْمُصَنِّفُ لِهَذَا بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ دُرُوعًا مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ (وَبِأَنَّ عُمَرَ كَانَ يُغْزِي الْأَعْزَبَ عَنْ ذِي الْحَلِيلَةِ، وَيُعْطِي الشَّاخِصَ فَرَسَ الْقَاعِدِ) أَمَّا قِصَّةُ صَفْوَانَ فَلَا شَكَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ يَطْلُبُ مِنْهُ أَدْرَاعًا عِنْدَ خُرُوجِهِ إلَى حُنَيْنٍ.
فَفِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْعٍ، وَكَانَ صَفْوَانُ إذْ ذَاكَ عَلَى شِرْكِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ طَلَبَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسَيِّرَهُ شَهْرَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَيَّرْتُك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ»، ثُمَّ عَرَضَ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ إلَى حُنَيْنٍ فَأَرْسَلَ يَطْلُبُ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَغَصْبًا؟ قَالَ: «لَا بَلْ عَارِيَّةً مَضْمُونَةً»، فَبَعَثَهَا ثُمَّ اسْتَحْمَلَهُ إيَّاهَا فَحَمَلَهَا عَلَى مِائَتَيْ بَعِيرٍ.
وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ قَالَ: «فَضَاعَ بَعْضُهَا، فَعَرَضَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَضْمَنَهَا، فَقَالَ: لَا أَنَا الْيَوْمَ فِي الْإِسْلَامِ أَرْغَبُ».
وَهَذَا لَا يُطَابِقُ نَفْسَ الْمُدَّعِي وَهُوَ تَكْلِيفُ الْإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يُعِينُوا الْخَارِجِينَ، وَلَا يُفِيدُ ذَلِكَ إلَّا بِالِالْتِزَامِ، فَإِنَّ مَا يَفْعَلُهُ الْإِمَامُ فِي الْمُتَكَلِّمِ فِيهِ لَا يَأْخُذُهُ عَلَى أَنْ يَضْمَنَهُ لَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
نَعَمْ فِيهِ أَنَّهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ يَتَوَسَّلُ إلَى الْجِهَادِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ بِالِاسْتِعَارَةِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِشَرْطِ الضَّمَانِ لَهُمْ.
وَأَمَّا مَا عَنْ عُمَرَ فَظَاهِرٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى يُغْزِيهِ عَنْهُ لَيْسَ إلَّا أَنَّهُ يَأْخُذُ الْجِهَازَ مِنْهُ، وَإِلَّا فَهُوَ غَازٍ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
وَأَمَّا قولهُ يُعْطِي الشَّاخِصَ فَرَسَ الْقَاعِدِ فَصَرِيحٌ فِيهِ.
وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الْوَاقِدِيِّ بِسَنَدِهِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَغْزِي عَنْ ذِي الْحَلِيلَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ أَمْرُ الْفَرَسِ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنِ غِيَاثٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَغْزِي الْعَزَبَ وَيَأْخُذُ فَرَسَ الْمُقِيمِ فَيُعْطِيهِ الْمُسَافِرَ.

.(بَابُ كَيْفِيَّةِ الْقِتَالِ):

(وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ دَارَ الْحَرْبِ فَحَاصَرُوا مَدِينَةً أَوْ حِصْنًا دَعَوْهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ) لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا قَاتَلَ قَوْمًا حَتَّى دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ» قَالَ: (فَإِنْ أَجَابُوا كَفُّوا عَنْ قِتَالِهِمْ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقولوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» الْحَدِيثَ.
(وَإِنْ امْتَنَعُوا دَعَوْهُمْ إلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ) بِهِ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُمَرَاءَ الْجُيُوشِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ مَا يَنْتَهِي بِهِ الْقِتَالُ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ، وَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ تُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ، وَمَنْ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ كَالْمُرْتَدِّينَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ لَا فَائِدَةَ فِي دُعَائِهِمْ إلَى قَبُولِ الْجِزْيَةِ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} (فَإِنْ بَذَلُوهَا فَلَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ) لِقول عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِيَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا، وَالْمُرَادُ بِالْبَذْلِ الْقَبُولُ وَكَذَا الْمُرَادُ بِالْإِعْطَاءِ الْمَذْكُورِ فِيهِ فِي الْقُرْآنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ كَيْفِيَّةِ الْقِتَالِ):
لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْقِتَالَ لَازِمٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَفَعَلَهُ عَلَى حَدٍّ مَحْدُودٍ شَرْعًا فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ فَشَرَعَ فِيهِ فَقَالَ: (وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ دَارَ الْحَرْبِ) يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قولهِ الْجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ عَطْفَ جُمْلَةٍ، وَأَنْ يَكُونَ وَاوَ اسْتِئْنَافٍ (فَحَاصَرُوا مَدِينَةً) وَهِيَ الْبَلْدَةُ الْكَبِيرَةُ فَعَيْلَةٌ مِنْ مَدَنَ بِالْمَكَانِ أَقَامَ بِهِ (أَوْ حِصْنًا) وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُحْصَنُ الَّذِي لَا يُتَوَصَّلُ إلَى مَا فِي جَوْفِهِ (دَعَوْهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ) فَإِنْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ الدَّعْوَةُ فَهُوَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِذَلِكَ أُمَرَاءَ الْأَجْنَادِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ.
وَأَلْفَاظُ بَعْضِهِمْ تَزِيدُ عَلَى بَعْضٍ وَتَخْتَلِفُ قَال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَبِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: اُغْزُوا بِسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ، اُغْزُوا وَلَا تَغْلُوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلَيَدًا، وَإِذَا لَقِيت عَدُوَّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلَى إحْدَى خِصَالٍ ثَلَاثٍ أَوْ خِلَالٍ، فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ اُدْعُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ. ثُمَّ اُدْعُهُمْ إلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَعْلِمْهُمْ إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَأَنَّ عَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ نَصِيبٌ إلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْأَلْهُمْ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ، وَإِذَا حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوك أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَك وَذِمَّةَ أَصْحَابِك فَإِنَّكُمْ إنْ تَخْفِرُوا ذِمَّتَكُمْ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكُمْ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَإِذَا أَهْلُ حِصْنٍ فَأَرَادُوك أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَصَبْتَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا، ثُمَّ اقْضُوا فِيهِمْ بَعْدُ مَا شِئْتُمْ» وَفِي الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ كَثْرَةٌ.
وَفِي نَفْسِ هَذَا الْحُكْمِ شُهْرَةٌ وَإِجْمَاعٌ، وَلِأَنَّ بِالدَّعْوَةِ يَعْلَمُونَ أَنَّا مَا نُقَاتِلُهُمْ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِهِمْ وَسَبْيِ عِيَالِهِمْ فَرُبَّمَا يُجِيبُونَ إلَى الْمَقْصُودِ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ فَلَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِعْلَامِ وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ فَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: «مَا قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمًا حَتَّى دَعَاهُمْ» رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَلَوْ قَاتَلُوهُمْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ أَثِمُوا، وَلَكِنْ لَا غَرَامَةَ بِمَا أَتْلَفُوا مِنْ نَفْسٍ وَلَا مَالٍ مِنْ دِيَةٍ وَلَا ضَمَانَ لِأَنَّ مُجَرَّدَ حُرْمَةِ الْقَتْلِ لَا تُوجِبُ ذَلِكَ كَمَا لَوْ قَتَلُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ.
وَذَلِكَ لِانْتِفَاءِ الْعَاصِمِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَالْإِحْرَازُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ.
وَفِي الْمُحِيطِ: بُلُوغُ الدَّعْوَةِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا بِأَنْ اسْتَفَاضَ شَرْقًا وَغَرْبًا أَنَّهُمْ إلَى مَاذَا يَدْعُونَ وَعَلَى مَاذَا يُقَاتِلُونَ فَأُقِيمَ ظُهُورُهَا مَقَامَهَا انْتَهَى.
وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي بِلَادِ اللَّهِ تَعَالَى مَنْ لَا شُعُورَ لَهُ بِهَذَا الْأَمْرِ فَيَجِبُ أَنَّ الْمَدَارَ عَلَيْهِ ظَنُّ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ تَبْلُغْهُمْ الدَّعْوَةُ فَإِذَا كَانَتْ بَلَغَتْهُمْ لَا تَجِبُ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ.
أَمَّا عَدَمُ الْوُجُوبِ فَلِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَوْفٍ: كَتَبْت إلَى نَافِعٍ أَسْأَلُهُ عَنْ الدُّعَاءِ قَبْلَ الْقِتَالِ فَكَتَبَ إلَيَّ: إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ الْإِسْلَام: «قَدْ أَغَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ، وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى عَلَى الْمَاءِ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ حَدَّثَنِي بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ».
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَهِدَ إلَيْهِ فَقَالَ: أَغِرْ عَلَى أُبْنَى صَبَاحًا وَحَرِّقْ» وَالْغَارَّةُ لَا يَكُونُ مَعَ دَعْوَةٍ.
وَأُبْنَى بِوَزْنِ حُبْلَى مَوْضِعٌ مِنْ فَلَسْطِينَ بَيْنَ عَسْقَلَانَ وَالرَّمْلَةِ، وَيُقَالُ يُبْنَى بِيَاءٍ مَضْمُومَةٍ آخِرَ الْحُرُوفِ، وَقِيلَ اسْمُ قَبِيلَةٍ.
وَأَمَّا الِاسْتِحْبَابُ فَلِأَنَّ التَّكْرَارَ قَدْ يُجْدِي الْمَقْصُودَ فَيَنْعَدِمُ الضَّرَرُ الْأَعْلَى، وَقُيِّدَ هَذَا الِاسْتِحْبَابُ بِأَنْ لَا يَتَضَمَّنَ ضَرَرًا بِأَنْ يَعْلَمَ بِأَنَّهُمْ بِالدَّعْوَةِ يَسْتَعِدُّونَ أَوْ يَحْتَالُونَ أَوْ يَتَحَصَّنُونَ، وَغَلَبَةُ الظَّنِّ فِي ذَلِكَ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ كَالْعِلْمِ بَلْ هُوَ الْمُرَادُ، وَإِذًا فَحَقِيقَتُهُ يَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا، فَإِنْ أَجَابَ الْمَدْعُوُّ أَوْ غَيْرُهُ إلَى الْإِسْلَامِ فَلَا إشْكَالَ، وَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ جَعَلَهُ غَايَةَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ حَيْثُ قَال: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقولوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَإِنْ امْتَنَعُوا دَعَوْهُمْ إلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ بِهَذَا أَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُمَرَاءَ الْأَجْنَادِ» وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ (وَلِأَنَّهُ أَحَدُ مَا يَنْتَهِي بِهِ الْقِتَالُ كَمَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ) قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ} إلَى قولهِ سُبْحَانَه: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} وَهَذَا إنْ لَمْ يَكُونُوا مُرْتَدِّينَ وَلَا مُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ عَلَى مَا سَيَتَّضِحُ (فَإِنْ بَذَلُوهَا) أَيْ قَبِلُوهَا (وَكَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْإِعْطَاءِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ) بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ: إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا.
وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، بَلْ هُوَ مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ، وَمَعْنَى حَدِيثِ عَلِيٍّ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ، أَنْبَأَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ الْأَسَدِيِّ عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ أَبِي الْجَنُوبِ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ مَنْ كَانَتْ لَهُ ذِمَّتُنَا فَدَمُهُ كَدَمِنَا وَدِينُهُ كَدِينِنَا وَضَعَّفَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَبَا الْجَنُوبِ.

متن الهداية:
(وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ إلَى الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ يَدْعُوهُ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي وَصِيَّةِ أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ: «فَادْعُهُمْ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» وَلِأَنَّهُمْ بِالدَّعْوَةِ يَعْلَمُونَ أَنَّا نُقَاتِلُهُمْ عَلَى الدِّينِ لَا عَلَى سَلْبِ الْأَمْوَالِ وَسَبْيِ الذَّرَارِيِّ فَلَعَلَّهُمْ يُجِيبُونَ فَنُكْفَى مُؤْنَةُ الْقِتَالِ، وَلَوْ قَاتَلَهُمْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ أَثِمَ لِلنَّهْيِ، وَلَا غَرَامَةَ لِعَدَمِ الْعَاصِمِ وَهُوَ الدِّينُ أَوْ الْإِحْرَازُ بِالدَّارِ فَصَارَ كَقَتْلِ النِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ) مُبَالَغَةً فِي الْإِنْذَارِ، وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ». «وَعَهِدَ إلَى أُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُغِيرَ عَلَى أُبْنَى صَبَاحًا ثُمَّ يُحَرِّقَ» وَالْغَارَةُ لَا تَكُونُ بِدَعْوَةٍ.
قَالَ: (فَإِنْ أَبَوْا ذَلِكَ اسْتَعَانُوا بِاَللَّهِ عَلَيْهِمْ وَحَارَبُوهُمْ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ «فَإِنَّ أَبَوْا ذَلِكَ فَادْعُهُمْ إلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، إلَى أَنْ قَالَ: فَإِنْ أَبَوْهَا فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ عَلَيْهِمْ وَقَاتِلْهُمْ» وَلِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ النَّاصِرُ لِأَوْلِيَائِهِ وَالْمُدَمِّرُ عَلَى أَعْدَائِهِ فَيُسْتَعَانُ بِهِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ.
قَالَ: (وَنَصَبُوا عَلَيْهِمْ الْمَجَانِيقَ) كَمَا نَصَبَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى الطَّائِفِ (وَحَرَّقُوهُمْ) لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَحْرَقَ الْبُوَيْرَةَ.
قَالَ: (وَأَرْسَلُوا عَلَيْهِمْ الْمَاءَ وَقَطَّعُوا أَشْجَارَهُمْ وَأَفْسَدُوا زُرُوعَهُمْ) لِأَنَّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إلْحَاقَ الْكَبْتِ وَالْغَيْظِ بِهِمْ وَكَسْرَةَ شَوْكَتِهِمْ وَتَفْرِيقَ جَمْعِهِمْ فَيَكُونُ مَشْرُوعًا، (وَلَا بَأْسَ بِرَمْيِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مُسْلِمٌ أَسِيرٌ أَوْ تَاجِرٌ) لِأَنَّ فِي الرَّمْيِ دَفْعَ الضَّرَرِ الْعَامِّ بِالذَّبِّ عَنْ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ، وَقَتْلُ الْأَسِيرِ وَالتَّاجِرِ ضَرَرٌ خَاصٌّ، وَلِأَنَّهُ قَلَّمَا يَخْلُو حِصْنٌ عَنْ مُسْلِمٍ، فَلَوْ امْتَنَعَ بِاعْتِبَارِهِ لَانْسَدَّ بَابُهُ (وَإِنَّ تَتَرَّسُوا بِصِبْيَانِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ بِالْأُسَارَى لَمْ يَكُفُّوا عَنْ رَمْيِهِمْ) لِمَا بَيَّنَّاهُ (وَيَقْصِدُونَ بِالرَّمْيِ الْكُفَّارَ) لِأَنَّهُ إنْ تَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ فِعْلًا فَلَقَدْ أُمْكِنَ قَصْدًا، وَالطَّاعَةُ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ، وَمَا أَصَابُوهُ مِنْهُمْ لَا دِيَةَ عَلَيْهِمْ وَلَا كَفَّارَةَ لِأَنَّ الْجِهَادَ فَرْضٌ وَالْغَرَامَاتُ لَا تُقْرَنُ بِالْفُرُوضِ.
بِخِلَافِ حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ لِأَنَّهُ لَا يُمْتَنَعُ مَخَافَةَ الضَّمَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَاءِ نَفْسِهِ.
أَمَّا الْجِهَادُ فَمَبْنِيٌّ عَلَى إتْلَافِ النَّفْسِ فَيُمْتَنَعُ حِذَارَ الضَّمَانِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَإِنْ أَبَوْا ذَلِكَ اسْتَعَانُوا عَلَيْهِمْ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَحَارَبُوهُمْ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ «فَإِنْ أَبَوْا ذَلِكَ فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ عَلَيْهِمْ وَقَاتِلْهُمْ») وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ بِطُولِهِ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ.
وَالْمُدَمِّرُ الْمُهْلِكُ (فَيُسْتَعَانُ بِاَللَّهِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ، وَنَصَبُوا عَلَيْهِمْ الْمَجَانِيقَ كَمَا نَصَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ) عَلَى مَا فِي التِّرْمِذِيِّ مُفَصَّلًا فَإِنَّهُ قَالَ: قَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ رَجُلٍ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى الطَّائِفِ، قُلْت: لِوَكِيعٍ: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ؟ فَقَالَ: صَاحِبُكُمْ عُمَرُ بْنُ هَارُونَ».
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ مَكْحُولٍ مُرْسَلًا، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ، وَزَادَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا.
وَذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي، وَذَكَرَ أَنَّ الَّذِي أَشَارَ بِهِ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَحَرَّقَهُمْ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «أَحْرَقَ الْبُوَيْرَةَ» عَلَى مَا رَوَى السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «حَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَطَّعَهُ وَهِيَ الْبُوَيْرَةُ»: يَعْنِي أَنَّ الْبُوَيْرَةَ اسْمٌ لِنَخْلِ بَنِي النَّضِيرِ، وَلَهَا يَقول حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ ** حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ

وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ كَبْتُ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَكَسْرُ شَوْكَتِهِمْ وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ ذَلِكَ فَيَفْعَلُونَ مَا يُمْكِنُهُمْ مِنْ التَّحْرِيقِ وَقَطْعِ الْأَشْجَارِ وَإِفْسَادِ الزَّرْعِ، هَذَا إذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُمْ مَأْخُوذُونَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ مَغْلُوبُونَ وَأَنَّ الْفَتْحَ بَادٍ كُرِهَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إفْسَادٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحَاجَةِ وَمَا أُبِيحَ إلَّا لَهَا.
قولهُ: (وَلَا بَأْسَ بِرَمْيِهِمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مُسْلِمٌ أَسِيرٌ أَوْ تَاجِرٌ) بَلْ وَلَوْ تَتَرَّسُوا بِأُسَارَى الْمُسْلِمِينَ وَصِبْيَانِهِمْ سَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّهُمْ إنْ كَفُّوا عَنْ رَمْيِهِمْ انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِرَمْيِهِمْ إلَّا الْكُفَّارُ.
فَإِنْ أُصِيبَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَا دِيَةَ وَلَا كَفَّارَةَ، وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لَا يَجُوزُ رَمْيُهُمْ فِي صُورَةِ التَّتَرُّسِ إلَّا إذَا كَانَ فِي الْكَفِّ عَنْ رَمْيِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ انْهِزَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ قول الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ، فَإِنْ رَمَوْا وَأُصِيبَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَعِنْدَ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ فِيهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِيهِ الْكَفَّارَةُ قولا وَاحِدًا، وَفِي الدِّيَةِ قولانِ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: إنْ قَصْدَهُ بِعَيْنِهِ لَزِمَهُ الدِّيَةُ عَلِمَهُ مُسْلِمًا أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ دَمٌ مُفْرَجٌ» وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ بِعَيْنِهِ بَلْ رَمَى إلَى الصَّفِّ فَأُصِيبَ فَلَا دِيَةَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، وَتَرْكُ قَتْلِ الْكَافِرِ جَائِزٌ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لَلْإِمَامَ أَنْ لَا يَقْتُلَ الْأُسَارَى لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ تَرْكُهُ لِعَدَمِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ مَفْسَدَةَ قَتْلِ الْمُسْلِمِ فَوْقَ مَصْلَحَةِ قَتْلِ الْكَافِرِ.
وَجْهُ الْإِطْلَاقِ أَمْرَانِ الْأَوَّلُ أَنَّا أُمِرْنَا بِقِتَالِهِمْ مُطْلَقًا، وَلَوْ اُعْتُبِرَ هَذَا الْمَعْنَى انْسَدَّ بَابُهُ، لِأَنَّ حِصْنًا مَا أَوْ مَدِينَةً قَلَّمَا تَخْلُو عَنْ أَسْرِ مُسْلِمٍ فَلَزِمَ مِنْ افْتِرَاضِ الْقِتَالِ مَعَ الْوَاقِعِ مِنْ عَدَمِ خُلُوِّ مَدِينَةٍ أَوْ حِصْنٍ عَادَةً إهْدَارُ اعْتِبَارِ وُجُودِهِ فِيهِ، وَصَارَ كَرَمْيِهِمْ مَعَ الْعِلْمِ بِوُجُودِ أَوْلَادِهِمْ وَنِسَائِهِمْ فَإِنَّهُ يَجُوزُ إجْمَاعًا مَعَ الْعِلْمِ بِوُجُودِ مَنْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ فِيهِمْ وَاحْتِمَالُ قَتْلِهِ وَهُوَ الْجَامِعُ، غَيْرَ أَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ لَا يَقْصِدَ بِالرَّمْيِ إلَّا الْكَافِرَ لِأَنَّ قَصْدَ الْمُسْلِمِ بِالْقَتْلِ حَرَامٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَفْتَرِضْ وَهُوَ مَا إذَا فُتِحَتْ الْبَلْدَةُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا فَتْحَ الْإِمَامُ بَلْدَةً وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِيهَا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا لَا يَحِلُّ قَتْلُ أَحَدٍ مِنْهُمْ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ ذَلِكَ الْمُسْلِمَ أَوْ الذِّمِّيَّ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَلَوْ أَخْرَجَ وَاحِدًا مِنْ عَرَضِ النَّاسِ حَلَّ إذَنْ قَتْلُ الْبَاقِي لِجَوَازِ كَوْنِ الْمُخْرَجِ هُوَ ذَاكَ فَصَارَ فِي كَوْنِ الْمُسْلِمِ فِي الْبَاقِينَ شَكٌّ، بِخِلَافِ الْحَالَةِ الْأُولَى فَإِنَّ كَوْنَ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ فِيهِمْ مَعْلُومٌ بِالْفَرْضِ فَوَقَعَ الْفَرْقُ الثَّانِي أَنَّ فِيهِ دَفْعَ الضَّرَرِ الْعَامِّ بِالذَّبِّ عَنْ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ بِإِثْبَاتِ الضَّرَرِ الْخَاصِّ وَهُوَ وَاجِبٌ، ثُمَّ إنَّ الْمُصَنِّفَ أَحَالَ وَجْهَ مَسْأَلَةِ التَّتَرُّسِ عَلَى وَجْهَيْ مَسْأَلَةِ مَا إذَا كَانَ فِيهِمْ أَسِيرٌ مُسْلِمٌ حِينَئِذٍ أَوْ تَاجِرٌ.
وَقَدْ يُقَالُ إنْ سَلِمَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو أَهْلُ حِصْنٍ عَنْ تَاجِرٍ أَوْ أَسِيرٍ، فَإِطْلَاقُ افْتِرَاضِ الْقِتَالِ إهْدَارٌ لِاعْتِبَارِهِ مَانِعًا فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو أَهْلُ حِصْنٍ أَنْ يَتَتَرَّسُوا بِالْمُسْلِمِينَ لِيَكُونَ إطْلَاقُ الِافْتِرَاضِ إهْدَارًا لِحُرْمَةِ الرَّمْيِ، فَإِنَّ الْمُشَاهَدَةَ نَفَتْهُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَقَيَّدَ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ طَرِيقًا إلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ غَالِبًا.
وَأَمَّا قولهُ إنَّهُ دَفْعُ الضَّرَرِ الْعَامِّ بِإِلْحَاقِ الضَّرَرِ الْخَاصِّ فَقَدْ يُقَالُ إنَّ ذَلِكَ عِنْدَ الْعِلْمِ بِانْهِزَامِ الْمُسْلِمِينَ لَوْ لَمْ يَرْمِ وَحَلَّ الرَّمْيُ عِنْدَ ذَلِكَ لَمْ يَتَقَيَّدْ بِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ كُلَّ قِتَالٍ مَعَ الْكُفَّارِ هُوَ دَفْعُ الضَّرَرِ الْعَامِّ بِالذَّبِّ عَنْ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ: أَيْ مُجْتَمَعِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ الظَّفَرُ تَضَرَّرَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ وَهُوَ مَحَلُّ تَأَمُّلٍ، وَبِتَقْدِيرِهِ هُوَ ضَرَرٌ خَفِيفٌ أَشَدُّ مِنْهُ قَتْلُ الْمُسْلِمِ فِي غَالِبِ الظَّنِّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الضَّرَرُ الْعَامُّ مُقَدَّمًا عَلَى هَذَا إذَا كَانَ فِيهِ هَزِيمَتُهُمْ وَنَحْوُهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَغْرَمْ الدِّيَةَ إذَا أُصِيبَ مُسْلِمٌ مَعَ قولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ دَمٌ مُفْرَجٌ» أَيْ مُهْدَرٌ.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِالْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَغَيْرِهِمْ فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بِالْمَعْنَى، وَهُوَ مَا ذُكِرَ مِنْ قولهِ لِأَنَّ الْفُرُوضَ لَا تُقْرَنُ بِالْغَرَامَاتِ كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا لَوْ مَاتَ مَنْ عَزَّرَهُ الْقَاضِي أَوْ حَدَّهُ أَنَّهُ لَا دِيَةَ فِيهِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِذَلِكَ فَرْضٌ عَلَيْهِ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَإِلَّا امْتَنَعَ عَنْ الْإِقَامَةِ (بِخِلَافِ) الْمُضْطَرِّ (حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ) عَنْ الْأَكْلِ (مَخَافَةَ الضَّمَانِ) لِأَنَّ فِي الِامْتِنَاعِ هَلَاكُ نَفْسِهِ وَالضَّمَانُ أَخَفُّ عَلَيْهِ مِنْ هَلَاكِهَا فَلَا تُمْتَنَعُ (أَمَّا الْجِهَادُ فَمَبْنِيٌّ عَلَى إتْلَافِ نَفْسِهِ فَيَمْتَنِعُ حِذَارُهُ) وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا فِي الْمُضْطَرِّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْلُ مَالِ الْغَيْرِ مَعَ الضَّمَانِ فَلَمْ يَكُنْ فَرْضًا، فَهُوَ كَالْمُبَاحِ يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ افْتِرَاضِ الْجِهَادِ فِي نَفْيِ الضَّمَانِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِإِخْرَاجِ النِّسَاءِ وَالْمَصَاحِفِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانُوا عَسْكَرًا عَظِيمًا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ) لِأَنَّ الْغَالِبَ هُوَ السَّلَامَةُ وَالْغَالِبُ كَالْمُتَحَقِّقِ (وَيُكْرَهُ إخْرَاجُ ذَلِكَ فِي سَرِيَّةً لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا) لِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضَهُنَّ عَلَى الضَّيَاعِ وَالْفَضِيحَةِ وَتَعْرِيضَ الْمَصَاحِفِ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ فَإِنَّهُمْ يَسْتَخِفُّونَ بِهَا مُغَايَظَةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ» وَلَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ الْمُصْحَفَ إذَا كَانُوا قَوْمًا يَفُونَ بِالْعَهْدِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ التَّعَرُّضِ، وَالْعَجَائِزُ يَخْرُجْنَ فِي الْعَسْكَرِ الْعَظِيمِ لِإِقَامَةِ عَمَلٍ يَلِيقُ بِهِنَّ كَالطَّبْخِ وَالسَّقْيِ وَالْمُدَاوَاةِ، فَأَمَّا الشَّوَابُّ فَمَقَامُهُنَّ فِي الْبُيُوتِ أَدْفَعُ لِلْفِتْنَةِ وَلَا يُبَاشِرْنَ الْقِتَالَ لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا عِنْدَ ضَرُورَةٍ، وَلَا يُسْتَحَبُّ إخْرَاجُهُنَّ لِلْمُبَاضَعَةِ وَالْخِدْمَةِ، فَإِنْ كَانُوا لَا بُدَّ مُخْرَجِينَ فَبِالْإِمَاءِ دُونَ الْحَرَائِرِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا بَأْسَ بِإِخْرَاجِ النِّسَاءِ وَالْمَصَاحِفِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانُوا عَسْكَرًا عَظِيمًا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ هُوَ السَّلَامَةُ وَالْغَالِبُ كَالْمُتَحَقِّقِ، وَيُكْرَهُ إخْرَاجُ ذَلِكَ فِي سَرِيَّةٍ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضَهُنَّ عَلَى الضَّيَاعِ وَالْفَضِيحَةِ، وَتَعْرِيضَ الْمَصَاحِفِ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ) مِنْهُمْ لَهَا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهُوَ التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ») وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ السِّتَّةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ، مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ.
وَقولهُ وَهُوَ التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ احْتِرَازٌ عَمَّا ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْقُمِّيِّ، وَالصَّدْرُ الشَّهِيدُ عَنْ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ عِنْدَ قِلَّةِ الْمَصَاحِفِ كَيْ لَا يَنْقَطِعَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا يُكْرَهُ.
أَمَّا التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ فَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ مَنْقول عَنْ مَالِكٍ رَاوِي الْحَدِيثِ، فَإِنَّ أَبَا دَاوُد وَابْنَ مَاجَهْ زَادَا بَعْدَ قوله: «إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ»، قَالَ مَالِكٌ: أَرَى ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ.
وَالْحَقُّ أَنَّهَا مِنْ قول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ وَيَخَافُ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ» وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ» وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِم: «فَإِنِّي أَخَافُ» فَلِذَا حَكَمَ الْقُرْطُبِيُّ وَالنَّوَوِيُّ بِأَنَّهَا مِنْ قول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَلَّطَا مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مِنْ قول مَالِكٍ، وَقَدْ يَكُونُ مَالِكٌ لَمْ يَسْمَعْهَا فَوَافَقَ تَأْوِيلُهُ أَوْ شَكَّ فِي سَمَاعِهِ إيَّاهَا.
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَقَلُّ السَّرِيَّةِ أَرْبَعُمِائَةٍ وَأَقَلُّ الْعَسْكَرِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ: السَّرِيَّةُ عَدَدٌ قَلِيلٌ يَسِيرُونَ بِاللَّيْلِ وَيَكْمُنُونَ بِالنَّهَارِ انْتَهَى.
وَكَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ شَأْنِهِمْ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَقَدْ لَا يَكْمُنُونَ، وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ السُّرَى، وَهُوَ السَّيْرُ لَيْلًا فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ بَعْدَ قولهِ: يُؤْمَنُ عَلَيْهِ، وَيُكْرَهُ إخْرَاجُهُ فِيمَا لَيْسَ كَذَلِكَ.
فَإِنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ الْعَسْكَرِ الْعَظِيمِ إلَى السَّرِيَّةِ طَفْرَةٌ كَبِيرَةٌ لَيْسَتْ مُنَاسِبَةً؛ وَاَلَّذِي يُؤْمَنُ عَلَيْهِ فِي تَوَغُّلِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَيْسَ إلَّا الْعَسْكَرُ الْعَظِيمُ.
وَيَنْبَغِي كَوْنُهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال: «لَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ» وَهُوَ أَكْثَرُ مَا رَوَى فِيهِ هَذَا بِاعْتِبَارِهِ أَحْوَطُ، وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِنَا، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ إطْلَاقُ الْمَنْعِ أَخْذًا بِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَيْشِ وَالسَّرَايَا عَمَلًا بِإِطْلَاقِ النَّصِّ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ نَيْلُ الْعَدُوِّ لَهُ فِي الْجَيْشِ الْعَظِيمِ نَادِرًا فَنِسْيَانُهُ وَسُقُوطُهُ لَيْسَ بِنَادِرٍ، وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَنْصُوصَةَ لَمَّا كَانَتْ مَخَافَةَ نَيْلِهِ فَيُنَاطُ بِمَا هُوَ مَظِنَّتُهُ فَيَخْرُجُ الْجَيْشُ الْعَظِيمُ، وَالنِّسْيَانُ وَالسُّقُوطُ نَادِرٌ مَعَ الِاهْتِمَامِ وَالتَّشَمُّرِ لِلْحِفْظِ الْبَاعِثِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ حَمَلَهُ لَا يَكُونُ إلَّا مِمَّنْ يَخَافُ نِسْيَانَ الْقُرْآنِ فَيَأْخُذُهُ لِتَعَاهُدِهِ فَيُبْعَدُ ذَلِكَ مِنْهُ وَكُتُبُ الْفِقْهِ أَيْضًا كَذَلِكَ، ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ مَعْزُوًّا إلَى السِّيَرِ الْكَبِيرِ فَكُتُبُ الْحَدِيثِ أَوْلَى، ثُمَّ الْأَوْلَى فِي إخْرَاجِ النِّسَاءِ الْعَجَائِزِ لِلطِّبِّ وَالْمُدَاوَاةِ وَالسَّقْيِ دُونَ الشَّوَابِّ، وَلَوْ اُحْتِيجَ إلَى الْمُبَاضَعَةِ فَالْأَوْلَى إخْرَاجُ الْإِمَاءِ دُونَ الْحَرَائِرِ (وَلَا يُبَاشِرْنَ الْقِتَالَ لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ) وَقَدْ قَاتَلَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ وَأَقَرَّهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيْثُ قَال: «لَمَقَامُهَا خَيْرٌ مِنْ مَقَامِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ» يَعْنِي بَعْضَ الْمُنْهَزِمِينَ.

متن الهداية:
(وَلَا تُقَاتِلُ الْمَرْأَةُ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا وَلَا الْعَبْدُ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ) لِمَا بَيَّنَّا (إلَّا أَنْ يَهْجُمَ الْعَدُوُّ عَلَى بَلَدٍ لِلضَّرُورَةِ).
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا تُقَاتِلُ الْمَرْأَةُ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا وَلَا الْعَبْدُ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ لِمَا بَيَّنَّا) مِنْ تَقَدُّمِ حَقِّ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى (إلَّا أَنْ يَهْجُمَ الْعَدُوُّ) عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يَغْدِرُوا وَلَا يَغُلُّوا وَلَا يُمَثِّلُوا لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا تَغْلُو وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثِّلُوا» وَالْغُلُولُ: السَّرِقَةُ مِنْ الْمَغْنَمِ، وَالْغَدْرُ: الْخِيَانَةُ وَنَقْضُ الْعَهْدِ، وَالْمُثْلَةُ الْمَرْوِيَّةُ فِي قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ مَنْسُوخَةٌ بِالنَّهْيِ الْمُتَأَخِّرِ هُوَ الْمَنْقول.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ) أَيْ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَغْدِرُوا أَوْ يَغُلُّوا أَوْ يُمَثِّلُوا، وَالْغُلُولُ السَّرِقَةُ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَالْغَدْرُ الْخِيَانَةُ وَنَقْضُ الْعَهْدِ.
قولهُ: (لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا تَغْلُوا» إلَخْ) تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ، وَقولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «وَلَا تُمَثِّلُوا» أَيْ الْمُثْلَةُ يُقَالُ مَثَلْت بِالرَّجُلِ بِوَزْنِ ضَرَبْت أَمْثُلُ بِهِ بِوَزْنِ أَنْصُرُ مَثْلًا وَمُثْلَةً إذَا سَوَّدْت وَجْهَهُ أَوْ قَطَعْت أَنْفَهُ وَنَحْوَهُ.
ذَكَرَهُ فِي الْفَائِقِ.
وَقول الْمُصَنِّفِ (وَالْمُثْلَةُ الْمَرْوِيَّةُ فِي قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ مَنْسُوخَةٌ بِالنَّهْيِ الْمُتَأَخِّرِ هُوَ الْمَنْقول) وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ؛ فَعِنْدَنَا وَالشَّافِعِيُّ مَنْسُوخَةٌ كَمَا ذَكَرَ قَتَادَةُ فِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ بَعْدَ رِوَايَةِ حَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ قَالَ: فَحَدَّثَنِي ابْنُ سِيرِينَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ.
وَفِي لَفْظٍ لِلْبَيْهَقِيِّ قَالَ أَنَسٌ: «مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ خُطْبَةً إلَّا نَهَى فِيهَا عَنْ الْمُثْلَةِ».
وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ الْيَعْمُرِيُّ فِي سِيرَتِهِ: مِنْ النَّاسِ مَنْ أَبَى ذَلِكَ، إلَى أَنْ قَالَ: وَلَيْسَ فِيهَا يَعْنِي آيَةَ الْحِرَابَةِ أَكْثَرُ مِمَّا يَشْعُرُ بِهِ لَفْظَةٌ إنَّمَا مِنْ الِاقْتِصَارِ فِي حَدِّ الْحِرَابَةِ عَلَى مَا فِي الْآيَةِ.
وَأَمَّا مَنْ زَادَ عَلَى الْحِرَابَةِ جِنَايَاتٍ أُخَرَ كَمَا فَعَلَ هَؤُلَاءِ كَمَا رَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي خَبَرِهِم: «أَنَّهُمْ قَطَعُوا يَدَ الرَّاعِي وَرِجْلَهُ وَغَرَزُوا الشَّوْكَ فِي لِسَانِهِ وَعَيْنَيْهِ حَتَّى مَاتَ» فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَمْنَعُ مِنْ التَّغْلِيظِ عَلَيْهِمْ وَالزِّيَادَةِ فِي عُقُوبَتِهِمْ فَهَذَا لَيْسَ بِمُثْلَةٍ، وَالْمُثْلَةُ مَا كَانَ ابْتِدَاءً عَلَى غَيْرِ جَزَاءٍ، وَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِم: «إنَّمَا سَمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْيُنَهُمْ لِأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرِّعَاءِ» وَلَوْ أَنَّ شَخْصًا جَنَى عَلَى قَوْمٍ جِنَايَاتٍ فِي أَعْضَاءٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَاقْتُصَّ مِنْهُ لَمَّا كَانَ التَّشْوِيهُ الَّذِي حَصَلَ لَهُ مِنْ الْمُثْلَةِ.
وَقَالَ: ذَكَرَ الْبَغَوِيّ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: يَعْنِي آيَةَ الْجَزَاءِ سَبَبًا آخَرَ، وَإِذَا اخْتَلَفَتْ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ الْأَقْوَالُ وَتَطَرَّقَ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ فَلَا نَسْخَ.
وَحَاصِلُ هَذَا الْقول أَنَّ الْمُثْلَةَ بِمَنْ مَثَّلَ جَزَاءٌ ثَابِتٌ لَمْ يُنْسَخْ، وَالْمُثْلَةُ بِمَنْ اسْتَحَقَّ الْقَتْلَ لَا عَنْ مُثْلَةٍ لَا تَحِلُّ لَا أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُشْرَعْ أَوَّلًا لِأَنَّ مَا وَقَعَ لِلْعُرَنِيِّينَ كَانَ جَزَاءَ تَمْثِيلِهِمْ بِالرَّاعِي، وَلَا شَكَّ أَنَّ قوله: «لَا تُمَثِّلُوا» عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ وَنَحْوِهَا إمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنْ مُثْلَةِ الْعُرَنِيِّينَ فَظَاهِرُ نَسْخِهَا أَوْ لَا يُدْرَى فَيَتَعَارَضُ مُحَرَّمٌ وَمُبِيحٌ خُصُوصًا وَالْمَحْرَمُ قول فَيَتَقَدَّمُ الْمُحَرَّمُ، وَكُلَّمَا تَعَارَضَ نَصَّانِ وَتَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا تَضَمَّنَ الْحُكْمَ بِنَسْخِ الْآخَرِ، وَرِوَايَةُ أَنَسٍ صَرِيحٌ فِيهِ.
وَأَمَّا مَنْ جَنَى عَلَى جَمَاعَةٍ جِنَايَاتٍ مُتَعَدِّدَةً لَيْسَ فِيهَا قَتْلٌ بِأَنْ قَطَعَ أَنْفَ رَجُلٍ وَأُذُنَيْ رَجُلٍ وَفَقَأَ عَيْنَ آخَرَ وَقَطَعَ يَدَ آخَرَ وَرِجْلَ آخَرَ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَدَاءً لِحَقِّهِ، لَكِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُسْتَأْتَى بِكُلِّ قِصَاصٍ بَعْدَ الَّذِي قَبْلَهُ إلَى أَنْ يَبْرَأَ مِنْهُ وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ هَذَا الرَّجُلُ مُمَثَّلًا بِهِ: أَيْ مُثْلَةً ضِمْنًا لَا قَصْدًا، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ أَثَرُ النَّهْيِ وَالنَّسْخِ فِيمَنْ مَثَّلَ بِشَخْصٍ حَتَّى قَتَلَهُ، فَمُقْتَضَى النَّسْخِ أَنْ يُقْتَلَ بِهِ ابْتِدَاءً وَلَا يُمَثَّلُ بِهِ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا بَعْدَ الظَّفَرِ وَالنَّصْرِ، أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ إذَا وَقَعَ قِتَالًا كَمُبَارِزٍ ضَرَبَ فَقَطَعَ أُذُنَهُ ثُمَّ ضَرَبَ فَفَقَأَ عَيْنَهُ فَلَمْ يَنْتَهِ فَضَرَبَ فَقَطَعَ أَنْفَهُ وَيَدَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ.

متن الهداية:
(وَلَا يَقْتُلُوا امْرَأَةً وَلَا صَبِيًّا وَلَا شَيْخًا فَانِيًا وَلَا مُقْعَدًا وَلَا أَعْمَى) لِأَنَّ الْمُبِيحَ لِلْقَتْلِ عِنْدَنَا هُوَ الْحِرَابُ وَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُمْ، وَلِهَذَا لَا يَقْتُلُ يَابِسُ الشَّقِّ وَالْمَقْطُوعُ الْيُمْنَى وَالْمَقْطُوعُ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ.
وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ يُخَالِفُنَا فِي الشَّيْخِ الْفَانِي وَالْمُقْعَدِ وَالْأَعْمَى لِأَنَّ الْمُبِيحَ عِنْدَهُ الْكُفْرُ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا بَيَّنَّا، وَقَدَّ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ قَتْلِ الصِّبْيَانِ وَالذَّرَارِيِّ» وَحِينَ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً مَقْتُولَةٌ قَالَ: «هَاهْ، مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ فَلِمَ قُتِلَتْ؟» قَالَ: (إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ لَهُ رَأْيٌ فِي الْحَرْبِ أَوْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مَلِكَةً) لِتَعَدِّي ضَرَرِهَا إلَى الْعِبَادِ، وَكَذَا يُقْتَلُ مَنْ قَاتَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ دَفْعَا لِشَرِّهِ، وَلِأَنَّ الْقِتَالَ مُبِيحٌ حَقِيقَةً.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يَقْتُلُوا امْرَأَةً وَلَا صَبِيًّا) أَخْرَجَ السِّتَّةُ إلَّا النَّسَائِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْتُولَةً فَنَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ».
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «انْطَلِقُوا بِاسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، لَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا وَلَا طِفْلًا وَلَا صَغِيرًا وَلَا امْرَأَةً، وَلَا تَغْلُوا وَضُمُّوا غَنَائِمَكُمْ وَأَصْلِحُوا وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» وَفِيهِ خَالِدُ بْنُ الْفَزَرِ، قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِذَاكَ، وَأَمَّا مُعَارَضَتُهُ بِمَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «اُقْتُلُوا الشُّيُوخَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَبَقُوا شَرْخَهُمْ»، فَأَضْعَفُ مِنْهُ ثُمَّ عَلَى أُصُولِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ لَا مُعَارَضَةَ بَلْ يَجِبُ أَنْ تُخَصَّ الشُّيُوخَ بِغَيْرِ الْفَانِي، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ الشَّيْخُ الْفَانِي لِيَخُصَّ الْعَامَّ مُطْلَقًا بِالْخَاصِّ.
نَعَمْ يُعَارَضُ ظَاهِرًا بِمَا أَخْرَجَ السِّتَّةُ عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ «أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَهْلِ الدَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُبَيِّتُونَ فَيُصَابُ مِنْ ذَرَارِيِّهِمْ وَنِسَائِهِمْ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: هُمْ مِنْهُمْ» وَفِي لَفْظٍ «هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ» فَيَجِبُ دَفْعًا لِلْمُعَارَضَةِ حَمْلَهُ عَلَى مَوْرِدِ السُّؤَالِ وَهُمْ الْمُبَيِّتُونَ، وَذَلِكَ أَنَّ فِيهِ ضَرُورَةَ عَدَمِ الْعِلْمِ وَالْقَصْدِ إلَى الصِّغَارِ بِأَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّ التَّبْيِيتَ يَكُونُ مَعَهُ ذَلِكَ، وَالتَّبْيِيتُ هُوَ الْمُسَمَّى فِي عُرْفِنَا بِالْكَبْسَةِ، وَمَا الظَّنُّ إلَّا أَنَّ حُرْمَةَ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ إجْمَاعٌ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «رَأَى امْرَأَةً مَقْتُولَةً» فَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْمُرَقَّعِ بْنِ صَيْفِيٍّ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّهِ رَبَاحِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ صَيْفِيٍّ قَال: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ، فَرَأَى النَّاسَ مُجْتَمَعِينَ عَلَى شَيْءٍ فَبَعَثَ رَجُلًا فَقَالَ: اُنْظُرْ عَلَامَ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ؟ فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: امْرَأَةٌ قَتِيلٌ، فَقَالَ: مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ، وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَبَعَثَ رَجُلًا فَقَالَ: قُلْ لِخَالِدٍ لَا تَقْتُلَنَّ امْرَأَةً وَلَا عَسِيفًا» وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ أَيْضًا وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ الْمُغِيرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْمُرَقَّعِ، وَكَذَا أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَفِي لَفْظِهِ فَقَال: «هَاهْ مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ» ثُمَّ قَالَ: وَهَكَذَا رَوَاهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ فَصَارَ الْحَدِيثُ صَحِيحًا عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. وَهَاهْ كَلِمَةُ زَجْرٍ، وَالْهَاءُ الثَّانِيَةُ لِلسَّكْتِ. وَإِذَا ثَبَتَ فَقَدْ عَلَّلَ الْقَتْلَ بِالْمُقَاتِلَةِ فِي قوله: «مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ» فَثَبَتَ مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّهُ مَعْلُولٌ بِالْحِرَابَةِ فَلَزِمَ قَتْلُ مَا كَانَ مَظِنَّةً لَهُ، بِخِلَافِ مَا لَيْسَ إيَّاهُ، وَبِمَنْعِ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ أَوْ يَابِسِ الشِّقِّ وَنَحْوِهِ يَبْطُلُ كَوْنُ الْكُفْرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كُفْرٌ عِلَّةً أُخْرَى، وَإِلَّا لَقُتِلَ هَؤُلَاءِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقول الْمُصَنِّفِ (وَالْحَجَّةُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الشَّافِعِيِّ (مَا بَيَّنَّاهُ) يَعْنِي مِنْ عَدَمِ قَتْلِ يَابِسِ الشِّقِّ، لَكِنْ هَذَا الْإِلْزَامُ عَلَى أَحَدِ الْقوليْنِ لَهُ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي شَرْحِ الْوَجِيزِ وَفِي الشُّيُوخِ وَالْعُمْيَانِ وَالضُّعَفَاءِ وَالزَّمْنَى وَمَقْطُوعِي الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ قولانِ: فِي قول يَجُوزُ قَتْلَهُمْ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ لِعُمُومِ: {اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «اُقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَحْيُوا شَرْخَهُمْ» وَلِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ وَالْكُفْرُ مُبِيحٌ لِلْقَتْلِ.
وَفِي قول لَا يَجُوزُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَذَكَرَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْحَدِيثِ الْمَانِعِ مِنْ قَتْلِ الشَّيْخِ الْفَانِي.
قَالَ: وَالْمُقْعَدُ وَالزَّمِنِ وَمَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ وَالرَّجُلَيْنِ فِي مَعْنَاهُ.
وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ أَوْصَى يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الشَّامِ فَقَالَ: «لَا تَقْتُلُوا الْوِلْدَانَ وَلَا النِّسَاءَ وَلَا الشُّيُوخَ» الْخَبَرَ انْتَهَى.
وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ قوله تعالى: {اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِالذِّمِّيِّ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَجَازَ تَخْصِيصُ الشَّيْخِ الْفَانِي، وَمَنْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ بِالْقِيَاسِ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ خَبَرٌ فَكَيْفَ وَفِيهِمْ مَا سَمِعْت، بَلْ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ النُّصُوصَ مُقَيَّدَةٌ ابْتِدَاءً بِالْمُحَارِبِينَ عَلَى مَا تَرْجِعُ إلَيْهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الشُّيُوخِ فَتَقَدَّمَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ بِالِانْقِطَاعِ عِنْدَهُمْ وَبِالْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، وَلَوْ سُلِّمَ فَيَجِبُ تَخْصِيصُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا عَلَى أُصُولِهِمْ.
وَأَمَّا قول الْمُصَنِّفِ صَحَّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «نَهَى عَنْ قَتْلِ الصِّبْيَانِ وَالذَّرَارِيِّ» فَالْمُرَادُ بِالذَّرَارِيِّ النِّسَاءُ مِنْ اسْمِ السَّبَبِ فِي الْمُسَبَّبِ.
قَالَ فِي الْعُرَنِيِّينَ:
وَفِي الْحَدِيثِ «لَا تَقْتُلُوا ذُرِّيَّةً وَلَا عَسِيفًا» أَيْ امْرَأَةً وَلَا أَجِيرًا، ثُمَّ الْمُرَادُ بِالشَّيْخِ الْفَانِي الَّذِي لَا يَقْتُلُ هُوَ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ وَلَا الصِّيَاحِ عِنْدَ الْتِقَاءِ الصَّفَّيْنِ وَلَا عَلَى الْإِحْبَالِ لِأَنَّهُ يَجِيءُ مِنْهُ الْوَلَدُ فَيَكْثُرُ مُحَارِبُ الْمُسْلِمِينَ، ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ.
وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ فِي كِتَابِ الْمُرْتَدِّ مِنْ شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إذَا كَانَ كَامِلَ الْعَقْلِ نَقْتُلُهُ وَمِثْلُهُ نَقْتُلُهُ إذَا ارْتَدَّ، وَاَلَّذِي لَا نَقْتُلُهُ الشَّيْخُ الْفَانِي الَّذِي خَرِفَ وَزَالَ عَنْ حُدُودِ الْعُقَلَاءِ وَالْمُمَيَّزِينَ فَهَذَا حِينَئِذٍ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمَجْنُونِ فَلَا نَقْتُلُهُ وَلَا إذَا ارْتَدَّ.
قَالَ: وَأَمَّا الزَّمْنَى فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الشُّيُوخِ فَيَجُوزُ قَتَلَهُمْ إذَا رَأَى الْإِمَامُ ذَلِكَ كَمَا يَقْتُلُ سَائِرَ النَّاسِ بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا عُقَلَاءَ وَنَقْتُلُهُمْ أَيْضًا إذَا ارْتَدُّوا.اهـ.
وَلَا نَقْتُلُ مَقْطُوعَ الْيَدِ الْيُمْنَى وَالْمَقْطُوعَ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَنَقْتُلُ أَقْطَعَ الْيَدِ الْيُسْرَى أَوْ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ.
قولهُ: (إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ حُكْمِ عَدَمِ الْقَتْلِ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا لِأَحَدٍ، وَصَحَّ أَمْرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَتْلِ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ وَكَانَ عُمْرُهُ مِائَةً وَعِشْرِينَ عَامًا أَوْ أَكْثَرَ وَقَدْ عَمِيَ لَمَّا جِيءَ بِهِ فِي جَيْشِ هَوَازِنَ لِلرَّأْيِ، وَكَذَلِكَ يُقْتَلُ مَنْ قَاتَلَ مِنْ كُلِّ مَنْ قُلْنَا إنَّهُ لَا يُقْتَلُ كَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ.

متن الهداية:
(وَلَا يَقْتُلُ مَجْنُونًا) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ إلَّا أَنْ يُقَاتِلَ فَيُقْتَلَ دَفْعًا لِشَرِّهِ، غَيْرَ أَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ يُقْتَلَانِ مَا دَامَا يُقَاتِلَانِ، وَغَيْرُهُمَا لَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ بَعْدَ الْأَسْرِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ لِتَوَجُّهِ الْخِطَابِ نَحْوَهُ، وَإِنْ كَانَ يُجَنُّ وَيُفِيقُ فَهُوَ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ كَالصَّحِيحِ.
الشَّرْحُ:
(إلَّا أَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ يُقْتَلَانِ فِي حَالِ قِتَالِهِمَا) أَمَّا غَيْرُهُمَا مِنْ النِّسَاءِ وَالرُّهْبَانِ وَنَحْوِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ إذَا قَاتَلُوا بَعْدَ الْأَسْرِ، وَالْمَرْأَةُ الْمَلِكَةُ تُقْتَلُ، وَإِنْ لَمْ تُقَاتِلْ، وَكَذَا الصَّبِيُّ الْمَلِكُ وَالْمَعْتُوهُ الْمَلِكُ، لِأَنَّ فِي قَتْلِ الْمَلِكِ كَسْرَ شَوْكَتِهِمْ.
وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ: لَا يُقْتَلُ الرَّاهِبُ فِي صَوْمَعَتِهِ وَلَا أَهْلُ الْكَنَائِسِ الَّذِينَ لَا يُخَالِطُونَ النَّاسَ، فَإِنْ خَالَطُوا قُتِلُوا كَالْقِسِّيسِينَ، وَاَلَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ يُقْتَلُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ الرَّجُلُ أَبَاهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَيَقْتُلَهُ) لِقولهِ تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} وَلِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إحْيَاؤُهُ بِالْإِنْفَاقِ فَيُنَاقِضُهُ الْإِطْلَاقُ فِي إفْنَائِهِ (فَإِنْ أَدْرَكَهُ امْتَنَعَ عَلَيْهِ حَتَّى يَقْتُلَهُ غَيْرُهُ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ اقْتِحَامِهِ الْمَأْثَمَ، وَإِنْ قَصَدَ الْأَبُ قَتْلَهُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ إلَّا بِقَتْلِهِ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الدَّفْعُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ شَهَرَ الْأَبُ الْمُسْلِمُ سَيْفَهُ عَلَى ابْنِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ إلَّا بِقَتْلِهِ يَقْتُلهُ لِمَا بَيَّنَّا فَهَذَا أَوْلَى، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيُكْرَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ الرَّجُلُ أَبَاهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ) أَوْ جَدَّهُ أَوْ أُمَّهُ إذَا قَاتَلَتْ أَوْ جَدَّتَهُ (بِالْقَتْلِ لِقولهِ تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}) نَزَلَتْ فِي الْأَبَوَيْنِ وَلَوْ مُشْرِكَيْنِ لِقولهِ تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاك عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ} الْآيَةَ (وَلِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ لِإِحْيَائِهِ فَيُنَاقِضُهُ الْإِطْلَاقُ فِي إفْنَائِهِ، فَإِنْ أَدْرَكَهُ) أَيْ أَدْرَكَ الْأَبُ الِابْنَ لِيَقْتُلَهُ وَالِابْنُ قَادِرٌ عَلَى قَتْلِهِ (امْتَنَعَ) الِابْنُ (عَلَى الْأَبِ) بِغَيْرِ الْقَتْلِ بَلْ يَشْغَلُهُ بِالْمُحَاوَلَةِ بِأَنْ يُعَرْقِبَ فَرَسَهُ أَوْ يَطْرَحَهُ عَنْ فَرَسِهِ وَيُلْجِئَهُ إلَى مَكَان، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْهُ وَيَتْرُكَهُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ حَرْبًا عَلَيْنَا بَلْ يُلْجِئُهُ إلَى أَنْ يَفْعَلَ مَا ذَكَرْنَا وَلَا يَدَعُهُ أَنْ يَهْرَبَ إلَى أَنْ يَجِيءَ مَنْ يَقْتُلُهُ، فَأَمَّا إنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ الِابْنُ مِنْ دَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ إلَّا بِالْقَتْلِ فَلِيَقْتُلْهُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا أَرَادَ قَتْلَ ابْنَهُ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّخَلُّصِ مِنْهُ إلَّا بِقَتْلِهِ كَانَ لَهُ قَتْلُهُ لِتَعَيُّنِهِ طَرِيقًا لِدَفْعِ شَرِّهِ فَهُنَا أَوْلَى، وَلَوْ كَانَ فِي سَفَرٍ وَعَطِشَا وَمَعَ الِابْنِ مَاءٌ يَكْفِي لِنَجَاةِ أَحَدِهِمَا كَانَ لِلِابْنِ شِرْبُهُ وَلَوْ كَانَ الْأَبُ يَمُوتُ، وَيَنْبَغِي أَنَّهُ لَوْ سَمِعَ أَبَاهُ الْمُشْرِكَ يَذْكُرُ اللَّهَ أَوْ رَسُولَهُ بِسُوءٍ يَكُونُ لَهُ قَتْلُهُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ قَتَلَ أَبَاهُ حِينَ سَمِعَهُ يَسُبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرُفَ وَكَرُمَ، فَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ».
وَلَا يُكْرَهُ لِلْأَبِ قَتْلُ ابْنِهِ الْمُشْرِكِ، وَكَذَا سَائِرُ الْقَرَابَاتِ عِنْدَنَا كَالْعَمِّ وَالْخَالِ يُبَاحُ قَتْلُهُمْ، وَلَا مُنَاقَضَةَ لِأَنَّ نَفَقَةَ ذَوِي الْأَرْحَامِ عِنْدَنَا لَا تَجِبُ إلَّا لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ، بِخِلَافِ الْقَرَابَاتِ الْبُغَاةِ يُكْرَهُ أَنْ يَبْتَدِئَهُمْ كَالْأَبِ، وَأَمَّا فِي الرَّجْمِ إذَا كَانَ الِابْنُ أَحَدَ الشُّهُودِ فَيَبْتَدِئُ بِالرَّجْمِ وَلَا يَقْصِدُ قَتْلَهُ بِأَنْ يَرْمِيَهُ مَثَلًا بِحَصَاةٍ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.